كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{يكاد} أي يقرب {سنا} أي ضوء {برقه} وهو اضطراب النور في خلاله {يذهب} أي هو ملتبسًا {بالأبصار} أي الناظرة له أي يخطفها لشدّة لمعانه وتلألئه فتكون قوة البرق دليلًا على تكاثف السحاب وبشيرًا بقوة المطر ونذيرًا بنزول الصواعق، واعلم أن البرق الذي صفته كذلك لابد وأن يكون نارًا عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد فظهوره يقتضي ظهور الضدّ من الضدّ وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم، ثم ذكر تعالى ما هو أدل على الاختيار بقوله تعالى مترجمًا لما يشمل ما مضى وزيادة:
{يقلب الله} أي الذي له الأمر كله بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلامًا والنقص تارة والزيادة أخرى مع المطر تارة والصحو أخرى {الليل والنهار} فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والتنويع واليبس ما يبهر العقول، ولهذا قال منبهًا على النتيجة {إن في ذلك} الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم {لعبرة} أي دلالة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته، وتنزيهه عن الحاجة وما يفضي إليها {لأولي الأبصار} أي لأصحاب البصائر على قدرة الله تعالى وتوحيده، ولما استدل تعالى أولًا بأحوال السماء والأرض وثانيًا بالآثار العلوية استدل ثالثًا بأحوال الحيوانات بقوله تعالى: {والله} أي: الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة {خلق كل دابة} أي: حيوان {من ماء} وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وكسر لام كل والباقون بفتح اللام والخاء ولا ألف بينهما ونصب لام كل.
فإن قيل: كثير من الحيوانات لم يخلق من الماء كالملائكة خلقوا من النور وهم أعظم الحيوانات عددًا، وكذا الجن وهم مخلوقون من النار وخلق آدم من التراب كما قال تعالى: {خلقه من تراب} وخلق عيسى من الريح، كما قال تعالى: {فنفخنا فيه من روحنا} ونرى كثيرًا من الحيوانات يتوالد لا من نطفة؟
أجيب: بوجوه؛ أحسنها: ما قال القفال: إن من ماء صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى، ثانيها: إن أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي «أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم قسم ذلك الماء فخلق منه النار والهواء والنور والتراب» والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة، فكان أصل الخلقة الماء، فلهذا ذكره الله تعالى، ثالثها: المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنها هنالك، فتخرج الملائكة والجن، رابعها: لما كان الغالب من هذه الحيوانات كونها مخلوقة من الماء إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء أطلق عليها لفظ كل تنزيلًا للغالب منزلة الكل.
فإن قيل: لم نكر الماء في قوله تعالى: {من ماء} وعرفه في قوله تعالى: {من الماء كل شيء حي} الأنبياء.
؟
أجيب: بأنه جاء هاهنا منكرًا لأن المعنى خلق كل دابة من نوع من الماء مختصًا بتلك الدابة، وعرفه في قوله تعالى: {من الماء كل شيء حيّ}؛ لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وهاهنا بيان أن ذلك الجنس.
ينقسم إلى أنواع كثيرة {فمنهم} أي: الدواب {من يمشي على بطنه}. كالحية والحيتان والديدان واستعير المشي للزحف على البطن كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر ويقال فلان ما مشى له أمر أو سمي بذلك للمشاكلة بذكر الزاحف مع الماشي {ومنهم من يمشي على رجلين} أي: فقط كالآدمي والطير {ومنهم من يمشي عل أربع} أي: من الأيدي والأرجل كالنعم والوحش فإن قيل: لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي، وقد نجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والحيوان الذي له أربع وأربعون رجلًا الذي يسمى دخال الأذن؟
أجيب: بأن هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر، فكان ملحقًا بالعدم، وقال النقاش: إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر من أربع؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوائم مشيه وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها وبأن قوله تعالى: {يخلق الله ما يشاء} كالتنبيه على سائر الأقسام فإن قيل: لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب؟.
أجيب: بأنه قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
تنبيه: إنما أطلق من على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المفصل بمن، وهو كل دابة وكان التعبير بمن أولى ليوافق اللفظ، ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر وكانوا منكرين له أكد ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له الكمال المطلق {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير} لأنه القادر على الكل والعالم بالكل، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات، فأي عقل يقف عليها، وأي خاطر يصل إلى ذرة من أسرارها؛ بل هو الذي يخلق ما يشاء كيف يشاء، ولا يمنعه منه مانع، ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص وقامت أدلة الوحدانية على ساق واتسقت براهين الألوهية أيّ اتساق؛ قال تعالى مترجمًا لتلك الأدلة: {لقد أنزلنا} أي: في هذه السورة وما تقدمها بما لنا من العظمة {آيات} أي: مما لنا من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال {مبينات} للحقائق بأنواع الدلائل التي لا خفاء فيها {والله} أي: الملك الأعظم {يهدي من يشاء} من عباده {إلى صراط} طريق {مستقيم} هو دين الإسلام الموصل إلى دار الحق والفوز بالجنة، ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبعه بذم قوم اعترفوا بالدين بألسنتهم ولكنهم لم يفعلوه بقلوبهم، فقال تعالى: {ويقولون} أي: الذين ذمهم الله تعالى: {آمنا بالله} أي: الذي أوضح لنا جلاله وعظمته وكماله {وبالرسول} أي: الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما قام عليها من الأدلة {وأطعنا} أي: وأوجدنا الطاعة لله ولرسوله، ثم عظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال تعالى: {ثم يتولى} أي: يرتد بإنكار القلب، ويعرض عن طاعة الله ورسوله ضلالًا منهم عن الحق {فريق منهم} أي: ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة {من بعد ذلك} أي: القول السديد المؤكد مع الله الذي هو أكبر من كل شيء، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق {وما أولئك} أي: البعداء البغضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد {بالمؤمنين} أي: المعهودين الموافقة قلوبهم ألسنتهم فإن قيل: إنه تعالى حكى عن كلهم أنهم يقولون: آمنا، ثم حكى عن فريق منهم التولي، فكيف يصح أن يقول في جميعهم: وما أولئك بالمؤمنين مع أن المتولي فريق؟
أجيب: بأن قوله تعالى: {وما أولئك بالمؤمنين} راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى، ولو رجع إلى الجملة الأولى لصح، ويكون معنى قوله تعالى: {ثم يتولى فريق منهم} أي: يرجع عن هذا الفريق إلى الباقي، فيظهر بعضهم لبعض الرجوع كما أظهروه بينهم، ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم قبح عليهم ما أظهروه فقال تعالى معبرًا بأداة التحقيق: {وإذا دعوا} أي: الفريق الذين ادعوا الإيمان من أيّ داعٍ كان {إلى الله} أي: إلى ما نصب الملك الأعظم من أحكامه {ورسوله} وأفرد الضمير في قوله تعالى: {ليحكم} وقد تقدمه اسمان وهما الله ورسوله، فهو كقوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} التوبة؛ لأن حكم رسوله هو حكمه. قال الزمخشري: كقولك: أعجبني زيد وكرمه، تريد كرم زيد ومنه قوله:
ومنهل من الفلافي أوسطه ** غلسته قبل القطا وفرّطه

أي: قبل فرط القطا {بينهم} أي: بما أراه الله {إذا فريق منهم} أي: ناس مجبولون على الأذى {معرضون} أي: فاجؤوا الإعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.
{وإن يكن لهم} أي: على سبيل الفرض {الحق} أي: بلا شبهة {يأتوا إليه} أي: الرسول {مذعنين} أي: منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم لأنهم يعلمون أنه دائر مع الحق لهم وعليهم، فليس انقيادهم لطاعة الله ورسوله.
تنبيه: قوله تعالى: {إليه} يجوز تعليقه بيأتوا لأن أتى وجاء قد يتعديان بإلى، ويجوز أن يتعلق بمذعنين؛ لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة، وصححه الزمخشري قال: لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص ومذعنين حال، ثم قسم تعالى الأمر في عدولهم عن حكومته صلى الله عليه وسلم إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب بقوله تعالى: {أفي قلوبهم مرض} أي: نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال، أو مرتابين في نبوته بقوله تعالى: {أم ارتابوا} أي: بأن رأوا منك تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم بك أو خائفين الحيف في قضائه بقوله تعالى: {أم يخافون أن يحيف} أي: يجور {الله} أي: الغني عن كل شيء لأن له كل شيء {عليهم ورسوله} أي: الذي لا ينطق عن الهوى، ثم أضرب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم الأول بقوله تعالى: {بل أولئك} أي: البعداء البغضاء {هم الظالمون} أي: الكاملون في الظلم، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني: إما أن يكون محققًا عندهم أو متوقعًا، وكل منهما باطل لأن منصب نبوته وفرط أمانته تمنعه فتعين الأول فظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف وضمير الفصل لنفي ذلك عن غيرهم فإن قيل: إذا خافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله فقد ارتابوا في الدنيا، وإذا ارتابوا ففي قلوبهم مرض والكل واحد فأي فائدة في التعديد؟
أجيب: بأن قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} أشار به إلى النفاق، وقوله تعالى: {أم ارتابوا} إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا حيث يتركون الدين بسببه فإن قيل: هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة أم؟ أجييب بأنه تعالى نبههم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق وكان فيها شك وارتياب وكانوا يخافون الحيف من الرسول، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال مقاتل: نزلت في بشر المنافق وكان قد خاصم يهوديًا في أرض، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمدًا يحيف علينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد مضت قصتها في سورة النساء.
وقال الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي رضي الله تعالى عنه أرض تقاسماها فوقع إلى علي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة: بعني أرضك فباعه إياها وتقابضا، فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء، فقال لعلي: اقبض أرضك فإنما أشتريتها إن رضيتها ولم أرضها، فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة: أما محمد فلا نأتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ، فنزلت الآية.
وقال الحسن: نزلت في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر، ولما نفى تعالى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به كان كأنه سئل عن حال المؤمنين، فقال تعالى: {إنما كان} أي: دائمًا {قول المؤمنين} أي: العريقين في ذلك الوصف {إذا دعوا} أي: من أي داع كان {إلى الله} أي: إلى ما أنزل الملك الذي لا كفء له من أحكامه {ورسوله} الذي لا ينطق عن الهوى {ليحكم} أي: الرسول {بينهم} بما أراه الله تعالى أي حكومة من الحكومات لهم أو عليهم {أن يقولوا سمعنا} أي: الدعاء {وأطعنا} أي: بالإجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس على طريق الخبر ولكنه تعليم أدب الشرع بمعنى أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا هكذا {وأولئك} أي: العالوا الرتبة {هم المفلحون} الذين وصفهم الله تعالى في أول المؤمنين، وهذا يدل على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، ولما رتب تعالى الفلاح على هذا النوع الخاص أتبعه عموم الطاعة بقوله تعالى: {ومن يطع الله} أي: الذي له الأمر كله {ورسوله} أي: فيما ساءه وسره {ويخش الله} أي: فيما صدر عنه من الذنوب في الماضي ليحمله ذلك على كل خير {ويتقه} أي: الله فيما بقي من عمره بأن يجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية من المباحات فيتركها ورعًا {فأولئك} أي: العالوا الرتبة {هم الفائزون} بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم، وعن ابن عباس في تفسير هذه الآية ومن يطع الله في فرائضه ورسوله في سننه ويخش الله على ما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل، وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت عليه هذه الآية.
وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء بخلاف عن خلاد وقالون باختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف، وقصر كسرة الهاء، والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء. اهـ.